يضطر مؤرخوا العصور
القديمة فى كثير من الأحيان إلى إطلاق العنان لخيالهم ، للربط بين بعض الشواهد الأثرية
التى تنطق بها بعض الحفائر المكتشفة ، وذلك لضبط
إيقاع تسلسل الأحداث فى فترة زمنية بالتاريخ القديم ، هادفين إلى أن تنسجم حركة
هذه الأحداث مع ماورد فى كتبهم وأسفارهم ، وأن تتوافق مع أهوائهم وعقائدهم ... والرأى
عندى أنه لايوجد تأريخا صحيحا للماضى القديم بالمفهوم العلمى لعلم التاريخ .. بل يوجد
مايمكن أن نسميه جوازا علم تفسير الآثار والحفائر والبرديات .. وعلى هذا الأساس فهو
علم متغير بطبيعته ، ويعتمد على ما قد يتم كشفه تباعا من آثار وحفائر قد تؤدى إلى تصويب
ماكان مستقرا من قبل من معلومات أثرية تشير إلى بعض الدلائل التاريخية .
وعندما يلجأ مؤرخوا هذا الماضى البعيد إلى سلسلة من الإفتراضات والتخمينات
لملئ ثغرات أو فراغات الأزمان القديمة ، وربط أحداثها بتسلسل معين يقبله منطقهم وعقيدتهم
، فهم مضطرون إلى ذلك لإضافة خلفية حية تزيد من حيوية المشاهد والأحداث بحيث تتفق مع
أهدافهم السياسية والعقائدية . وأقول أنه على الرغم من أن آثار قدماء المصريين وبردياتهم
، وعلى الرغم من دقتهم واهتمامهم بتسجيل وتدوين الأحداث ، فإننا نجد أن كل ماتركوه
لنا حتى الآن لم يشر من قريب أو بعيد إلى زيارة إبراهيم عليه السلام لمصر ، أو يشر
إلى يوسف وموسى عليهما السلام ، فلا يوجد من بين ماتركوه من آثار مايؤيد تلك الأحداث
الهامة من سير الأنبياء .
كما نجد أن لفظ "الهكسوس" – على سبيل المثال – على ماله من
أهمية ، وخاصة بعد أن ربطه الكثير من المؤرخين بالعبرانيين وببنى إسرائيل ، ومنهم من
قال أن الساميين هم العنصر الهام لقوم الهكسوس ..وأنه على الرغم من أهمية هذا اللفظ
وأهمية قوم الهكسوس فى حركة الأحداث بالنسبة لتاريخ العبرانيين وأنبياء بنى إسرائيل
، فإن لفظ "الهكسوس" مازال يحير علماء التاريخ ، وسوف يظل موضوع أصل شعب
الهكسوس غامضا إلى أن تظهر أدلة أثرية جديدة .. وكل ما وصل إليه العلماء هوأن كلمة
" الهكسوس" هى كلمة مصرية قديمة تعنى " حكام البلاد الأجانب" .
وتدل الشواهد الأثرية
أن الهكسوس قد تسللوا إلى مصر ببطء وعلى مهل ، وربط بعض المؤرخين بداية هذا التسلل
الهادئ بمجيئ إبراهيم عليه السلام إلى مصر هربا من الجوع والقحط (التوراة إصحاح 12
– تكوين) ، واختلف المؤرخون فى الزمن الذى حدث فيه بداية هذا التسلل .....
وقد بدأ الهكسوس كما قلنا تسللا هادئا بطيئا لمصر إلى أن انقضوا عليها
واجتاحوها عام 1730 ق.م. ، وتحكموا فى أقدارها قرابة قرن ونصف من الزمان ، إلى أن طردهم
أحمس الأول خارج حدود مصر إلى أرض كنعان (فلسطين) .. !! .. وقد أكد الكثير من المؤرخين
أن يوسف عليه السلام جاء إلى مصر وبيع إلى أحد وزرائها فى عهد الهكسوس ، ويؤكد ذلك
أيضا بعض كتب التفسير الإسلامية (تفسير الألوسى . جزء 12 ص 206) .. وتقول أسفار اليهود
أنه جاء إلى مصر فى السنة العشرين أو الثلاثين من حكم الهكسوس الذى دام مايقرب من
150 سنة .. ويتعين طبقا لرواية اليهود أن يكون حكم الهكسوس لمصر قد بدأ بعد مجيئ إبراهيم
عليه السلام لمصر بمدة طويلة .. والوقت المرجح
لوصول إبراهيم عليه السلام لمصر هو عام 1898 ق. م. ، فى حين أن الهكسوس حكموا مصر من
عام 1780 ق. م. – أى بعد وصول إبراهيم عليه السلام لمصر بما يقرب من 120 عاما .. وفى
رواية أخرى يعتبر البعض أن إبراهيم عليه السلام كان من الهكسوس ، وأنه دخل مصر عام
1780 ق.م. مع بداية حكم الهكسوس لمصر ، وهى رواية مخالفة فى زمن دخول إبراهيم عليه
السلام لمصر . وتقول الموسوعة العربية الميسرة (الناشر : مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر
1953) : أن اللفظ "هكسوس" هو إسم أطلقه المصريون على أولئك الغزاة الذين
اجتاحوا بلادهم من أخلاط سامية آسيوية مختلفة حوالى عام 1730 ق.م. فآذوهم فى دينهم
وأذلوهم ، وظلوا يحكمون البلاد قرنا ونصف قرن .
ويقول المؤرخ فيليب
فاراداى
Phillip R. Varaday Sr http://www.prvsr.com/median.htm : أن الهكسوس والعبرانيين تربطهم صلات نسب
ومصاهرة ، كما أنه يتفق أيضا مع بعض المؤرخين من أن هناك علاقة وثيقة بين حكام الهكسوس
وتسهيل دخول العبرانيين إلى مصر واستقرارهم فيها ، كما يتفق مع ماورد فى كتاب نايت
ولوماس
Knight & Lomas من أن
إبراهيم عليه السلام كان من الهكسوس ، وأنه وصل لمصر عام 1780 ق.م. ، حبث سهّلت زوجته
سارة (كما يقول) دخوله لقصر فرعون بعد أن رغب الفرعون الإختلاء بها ، وأن طمع فرعون مصر فى سارة ورغبته
الإختلاء بها جعله يحسن معاملة إبراهيم عليه السلام ، ويمنحه الكثير من العطايا والهدايا
، ومن هذه العطايا كانت السيدة هاجر وهى أميرة
أسيرة عنده .. وقد كذب إبراهيم عليه السلام حين أعلن لفرعون مصر أن سارة هى أخته وليست
زوجته لكى لايصطدم مع رغبة الفرعون بها معتقدا أن الله كفيل بحمايتها .... ويعلم الله
أن نفسى تتأفف من هذه الفرية الدنيئة التى اخترعها كاتب سفر التكوين وبعض المؤرخين
اليهود .. ويقول الدكتور محمد بيومى مهران فى شأن تلك الفرية فى كتابه (دراسات تاريخية
من القرآن الكريم جزء 1 ص 136) : أن تلك الفعلة لايقبلها إبراهيم عليه السلام على نفسه
، كما لايرتضيها لعرضه أحط الناس ، فضلا أن
يكون ذلك نبى الله وخليله العظيم ..
وإنى والله أتعجب
أشد العجب عندما يسمح علماء المسلمين لأنفسهم نقل هذه الفرية الحقيرة عن سيدنا إبراهيم
وزوجته سارة ويسجلوها بلا وعى فى مؤلفاتهم عن قصص الأنبياء .. وكأنها حقيقة مسلم بها
لمجرد أن التوراة هى مرجعها .. هذا رغم علمهم أن التوراة الأصلية قد ضاعت عند السبى
البابلى ، فأعاد أحبار اليهود كتابتها وتأليفها من خيالهم وذاكرتهم المريضة ، فزادوا
عليها كما أنقصوا منها على مر العصور والأيام لكى تتوافق مع أطماعهم وأهوائهم . واعترف
الكثير من اليهود بذلك ، ويكفينا نحن المسلمون ماأكده الله تعالى لنا فى تنزيله الحكيم
، حيث أكد تحريف التوراة "يحرفون الكلم عن مواضعه" ، كما أكد النسيان
" ونسوا حظا مما ذُكروا به " (المائدة 13) ، كما أكد الله إغفال اليهود ذكر
بعض الأحداث واصطناعهم للبعض الآخر من خيالهم المريض لكى تتفق مع ضلالاتهم "فويل
للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ....." (البقرة 79) . ومع ذلك ، فقد اقتبس المؤرخون
الإسلاميون وكتاب التفاسير من التوراة دون حذر ، فغصت للأسف كتب التفاسير وكتب التاريخ
الإسلامى بالإسرائيليات والأساطير التى دسها أدباء اليهود على التوراة الأصلية ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق